قِراءة لــ دعاء الكروان

 

؛

الفرقُ ما بينَ قِراءة الأدب العربيّ – وليسَ أي أدب – عن الأدب المترجم ، أنّك في كل مرّة سيبهرك أصيلُ الكلام ؛ فما بالك بقراءة عميد الأدب العربي – الدكتور طه حسين . 

كنتُ أجد في أسفل الصفحات شروح لبعض الألفاظ ، وكانتِ الألفاظُ جديدةً على إدراكي فعلًا! ، فأنتَ الآن كقارئ للرواية مابينَ مستمتعٍ بالأحداثِ وصياغتها ومتعلّم لمفرداتٍ جديدة تُعينكَ في وصفِ الحياة بلفظٍ جديد. 

حسنًا، عمر الرواية هو ٩٠ عامًا، فتخيّل انتقالك عبر الروايةِ إلى عام ١٩٣٤ م ، سأقولُ أنّي سافرتُ زمنيًا ومكانيًا أيضًا إلى أرياف (بني وركان) والقرى حولها آنذاك ، بل واندمجت أشدّ الاندماج في مجريات ما حدث. 

الرواية تدور حول أختينِ ووالدتهما، اضطرتهما الحياة للخروج من دارهم والخدمة في منازل الأثرياء، تدهشهما التفاصيل الجديدة في عالم الثراء بعيدًا عن شَظَف* العَيش (أي شدّة الضيق – وهي كلمة جديدة تعلّمتها من الرواية بسرور) حيث يقول الكاتب بلسان حال البطلة : ”وأيّ حياة تُهَيَّأ لي فيها! كلها شظف وخشونة، وكلها جهل وغفلة!“ فيحلّ شيطان الإغراء على (هنادي) الأخت الكبرى، ومن هنا تبدأ القصة…. 

سوفَ تصل عزيزي القارئ إلى منتصف الرواية والأحداث بطيئة بعض الشيء وسياقها غامض، ستكون في بادئ الأمر لا تفهم شيئا عدى بؤس هاتين الفتاتين ، ثمّ تتكشف المشكلات شيئًا فشيئًا وتتضح المأساة بشكل مؤلم ، حينها فقط ستُريد أن تصل إلى النهاية بأي شكل… فالأحداث تصبح في أوجها، وكانت النهاية مفتوحة .. للأسف، مما جعلني أبحثُ عن تفسيرها في (جوجل) فـ المفاجأة كانت بأنه تم إنتاج فيلم مبني على الرواية في عام ١٩٥٩ م ، و بحثتُ عنه ولحسن الحظ وجدته في منصة (اليوتيوب) ، وكانت المرة الأولى التي أشاهد فيها فيلمًا قديمًا جدًا! بطولة (فاتن حمامة) ، كان الفيلم جزءًا من تجربة الانتقال الزمني عبر الفن.. لكنّي فضّلتُ الرواية على الفيلم بلا شك. 

أظن قراءتي هذه تكفي ، حتّى إن قررتم اقتناء الرواية تحلّ الدهشة كما يجب على أذهانكم .

أنا أكذُب على أختي فأُزيِّن لها ما أكره، وهي لا تَكْذب على أحد، ولا تحفل بما تسمع، ولا تكذب على نفسها ، وإنّما أسلمتْ  نفسها للقضاء، و استيقنَتْ أن خيرَ ما في حياتها قد انقضى منذ أمَرَتْ أمّنا بترك المَدينة، فلم نُخالف من أمرها وإنما استجَبنا طائعتين. ولكن مما تخاف؟ وما هذا الرَّوع الذي كانت آياته تبدو على وجهها بين حين وحين ، والذي كان يبعث في جسمها من  وقتٍ إلى وقت رِعدة قوية توشِك أن تدفعها إلى الوثوب؟  ـــ طه حسين                                        

(قِراءة لــ (الابتزاز العاطفيّ

 

 

نحن نتعرض بشكلٍ أو آخر في حياتنا اليومية إلى ضغوط معيّنة ، قد تكون غير ملحوظة على المدى القريب، بل لا تبدو ضغوطًا أقرب لأن تكون واجبات نحن أجبرنا أنفسنا عليها بدافع عاطفيّ أغلب الأمر، ونشعر بالأمان المؤقت والسعادة الوهمية عند تحقيق رغبات الآخرين على حساب أنفسنا ، ويومًا بعد يوم تصبح تلك (الرغبات) مسؤوليات على عاتقنا، ونتجنب الاعتراف بذلك حتى.. بل نهرب من احتدام المواجهة والافصاح عن رغباتنا الحقيقية تجاه علاقة سليمة.

كتاب (الابتزاز العاطفي) للدكتورة سوزان فورورد  من أفضل الكتب التي قرأتها في عام ٢٠٢٤ م، ذلك أنها تزيح الستار عن أمور لا نريد أن نراها ، وما إنّ نراها سنجد الصورة كاملةً بكلّ العيوب والأخطاء التي نمارسها بعفوية، سيجعلك الكتاب تفهم نفسك أكثر أولًا، ومن ثمّ تفهم الآخر .. سوف لن نستثني أنفسنا من كوننا أشخاص مُبتزين عاطفيا ولنا ضحايا لتصرفاتنا أيضًا!

الكتاب يقع في ٢٩٩ صفحة ، يعرِض سيناريوهات مختلفة لعلاقات متفرقة من الواقع ، علاقات زملاء العمل ببعضهم البعض، العلاقات الزوجية ، علاقة الأبناء بالوالدين ، وغالبًا ما ستجد نموذجاً من هذه العلاقات يشبهك وحينها ستبدأ تختبر ذاتك من خلالهم، هل كنتَ تبتز الآخر عاطفيًا؟ أم كنت موقع ضحية الابتزاز؟ ولا بأس أن تكون الاثنين برأيي المهم هنا أن تحدد بوصلتك بعدها ..

هل ستستمر بذلك؟! أم ستجد حلًا ؟ هل ستظل تلوم الآخرين في دوامةٍ لا نهائية من التنازل ؟ هل ستختبئ خلف قلق المواجهة بغض النظر عن نتائجها أم ستبدأ بوضع الحدود لعلاقة صحية، أو إن تطلب الأمر ستقطع هذه العلاقة ما إن تبدأ بتهديد نزاهتك في قيامك بأمور تخالف قيمك ومبادئك، فعلى سبيل المثال، ذكرت الكاتبة نموذجاً لعلاقة ما بين رجلٍ وإمرأة، كانا يتبادلان الحبّ.. حتى صار يجبرها للذهاب معه إلى الحانات، وهذا شيء يخالف قيمها.. كان إصراره شديد ولطالما ابتزها بجملٍ مثل : لو أحببتني فعلا لرغبتي بالذهاب معي لكل مكان !، كانت تحبه فعلًا لكنها اختارت نفسها وقطعت علاقتها به خوفًا من العبث بنزاهتها وقيمها.

لا قيمة حقيقية وملموسة لعلاقةٍ تجرّنا للأسفل وتكلفنا المزيد مما لا نبتغيه، المسألة برأيي أكبر من كونها (حفاظًا على السلام الداخلي) و (اعتزال ما يؤذينا) ومثل هذه العبارات التي أجدها جوفاء وتافهة وأقرب لأن تكون هربًا وضعفًا يهدد شخصنا .. وجدتُ أن هدف الكتاب هو تقوية ضحية الابتزاز في بناء الحدود والمواجهة وتحديد مصير العلاقات دون مشاعر الخوف والذنب التي يؤججها المبتز عاطفيًا بطريقةٍ أو بأخرى…

 ”  إنّ الثمنَ الذي ندفعه في كلّ مرة نستسلم فيها للابتزاز العاطفي هو ثمنٌ باهظ جدًا ، وتعليقات المبتز وتصرفاته تُفقدنا توازننا وتُشعِرنا بالخجل والذنب. إننا موقنون بأنه يجب علينا أن نغير الموقف، ولطالما نقطع على أنفسنا وعودًا للقيامِ بذلك فعلًا، إلا أننا نجد الطرف الآخر يتفوّق علينا في الخدع أو المناورات لنجد أنفسنا نقع في فخ الابتزاز العاطفي مرة أخرى. ونشك مرة أخرى في قدرتنا على الوفاء بالوعود، ونفقد ثقتنا في كفاءتنا. ويتراجع شعورنا بتقدير الذات. ـــ  سوزان فورورد

هاتفٌ أرضيّ وساعة يد

كنتُ أتحدثُ مع زوجي عن حجمِ معاناتي في التركيز في أي شيء يبدو تافهًا، كالتركيز مع متحدّث مثلًا، وكم أستصعب تداول الحديث مع أي أحد لمدة تزيد عن عشر دقائق! يغيب ذهني أغلب الوقت دون فائدةٍ مرجوّة منّي فأبدو كمن كان يمضي في الحوار كيفما اتفق، دون اهتمام بالغ مني.. كم من المرات أقع في فراغ عدم الفهم الغائم جدًا فأطلبُ من المتحدث تكرار كلامه بملامح بلهاء و فاقدة للتركيز تمامًا.

لكن … كيف يمكنني أن أشرح لكل فرد أصادفه في أيامي المزدحمة دائمًا بالوجوه الكثيرة والأفواه التي لا تسكت بأنّ ما أمر به لا إراديّ وخارج نطاق تحكمي ولستُ أقصد تجاهل أحد لكن هكذا تبدو الصورة في الخارج فأقعُ في دوامة التبرير كما لو أنّه خطأ متعمد؟ 

كيف أشرح للجميع أن متابعة فيلم وقراءةَ كتاب مثلا هي أصبحت أعمال شاقة بالنسبة لي بعد أن كانت متنفس ، أُفق أو فلنقل أسلوب حياة كنتُ أعتمده كثيرًا في جذب عنصر الالهام وتغذية البصر والفكر والمفردات اللغوية الواسعة ؟

كم مرةٍ بدأتُ بمتابعة فيلم وأطفأته بعد مرور فترة بسيطة ذلك أن هاتفي بدأ يُظهر إشعارات من هنا وهناك وصرت أنظر إليه كلما أضاء فتمر الأحداث في الفيلم مرور الكرام دون أن أعيرها انتباهًا مطلقًا … أنا أعرفُ السبب وراء هذا كله، أو فلنقل أنني استنتجته ولربما يكون استنتاجًا ليس صحيحًا في أغلبه، لكن هذا ما يبدو لي حقًا، أعرف تمامًا كم سأبدو غريبة أطوار في طلبي الذي طلبته من زوجي وقراري الذي قررته بأنني من الآن فصاعدًا إن كان ثمة من يريد التواصل معي يتصل على الهاتف، لابد أن نشتري هاتفًا أرضيًا برقم ثابت.. أريد أن أعيش حقبةَ الأعوام السابقة. 

أجابني بتهكم أنني أبعد شخص يحب التواصل الصوتي ودائمًا ما أعتمد في تواصلي مع الآخرين بالرسائل، فأجبته أنني متأكدة أن ما أوصلني لحالة الشرود المستمر هو الهاتف الذكي الذي جعلنا أغبياء في آخر الأمر ، أريد التخلص منه كما لو أنه وباء، سأرتدي ساعة يدٍ لأعرف الوقت فلا داعي أن أعتمد النظر إلى هاتفي لأعرف ذلك ثم يجرّني بعدها سيلٌ من الاشعارات التي لا طائل منها.

بداية اليوم تبدأ بمنبّه الهاتف الذي بعد أن تُخرِسه للمرة المليون تستيقظ بنصف عين وتنظر لساعة الهاتف ثم تلقي نظرة على كمية الاشعارات التي أضاءت ليلًا دون لقاء عينيك فها أنت ذا تفي بالوعد الذي قطعته على نفسك بلا وعي تفتح واحدًا تلو الآخر، تنظر للأخبار الدموية – على الريق – ، تشحن نفسك بغضبٍ ما وكمد طويل ، ثمّ تنتقل لرسالة المرور التي تيقظك حقًا وتخبرك بتجاوز السرعة وعليك دفع مبلغ ما – كمية من التوتر العالي لصباح سعيد!- ،  ثم تنتقل لهذا وتلك ممن يملأون رأسك بالفيديوهات القصيرة التي تكتشف فيما بعد أنّها ليست إلا أفكار سريعة تتبخر بعد مضي دقيقتين وقد أوجعت رأسك المشحون بالكثير أصلًا ، فتبدأ باللعن على هذا وذاك كما لو أنهم لصوص قد سرقوا الوقت وتظل حانق ومنصدم  من مضي هذا الوقت كله مما تسبب في تأخرك عن العمل، وتسرع مجددًا في الشارع لحاقًا بالوقت المسروق فترصد سرعتك كاميرات الشارع وتبتلع مخالفة أخرى على مضض، وهذا باختصار روتين حياتك

جميعنا يعرف مساوئ المقاطع القصيرة التي يتداولها الجميع في جميع المنصات بأنها تعطينا خلاصةً ما من المعرفة فنبدو متبحرين في كل شيء بينما في الواقع نحن نكدس الكثير مما لا تطيقه وتحتاجه عقولنا ثم تصبح – هذه المعلومات – هباءً بعد دقيقتين  ، ولا نفهم حينها عدم تحملنا لإكمال معرفة معلومة بشكلها الواسع والمتقن من كل جانب ، من خلال كتاب أو فيلم وثائقي مثلا ، من خلال ورشة جماعية أو حتى حوار طويل وعميق مع شريكك في الحياة، ذلك لأننا أدمنّا معرفة الشيء بسهولةٍ ويُسر! .. نحنُ فقدنا القدرة على الاستماع والتحدث، وصرنا نعتمد على تواصلنا أيضًا بمراسلة هذه المقاطع حتى وإن كنا جنبًا إلى جنب . 

أين ذهبت المتعة التي كنا نقضيها أمام التلفزيون مع العائلة؟ مشاهدة الأحداث (معًا)، الضحك (معًا)، البكاء (معًا)، التأثر بكل أنواعه معاً! كلٌّ منا متقوقع الآن بمفرده ويرى ما  يراه وحيدًا لكن بحضور الجميع، مع الآخرين وليس معهم، يجمع الخلاصات والنفايات من وسائل التواصل الـ لا اجتماعية في ذاكرته ، ثم ينهار من فرط المعلومات بعقل ضبابيّ للغاية. 

هل أبالغ ؟ لا أعلم .. لكن زيادة الشيء كنقصانهِ دائمًا …. 

قراءة لـ غُرْبة المنازل

عندما استيقظَ من ذلك الكابوس، لم يكن خائفًا ولا حزينًا. وبعدَ لحظاتٍ أدركَ أنّه في شقتهِ وليس في زنزانة فأحس باعتدالِ مزاجٍ لم يحسّه منذ بدأ عزلته. تنفّس بعمق مطمئنًا إلى سلامةِ هواء الشّقة المخزون، مفكرًا في الخفّةِ القاتلة للكوڤيد الذي لا يحتاج إلى أكثر من الهواء لكي ينتقلَ ويُعَرْبِد ــ عزت القمحاوي

 

يبدأ عزّت القمحاوي (مجموعته القصصية) بغموضٍ ما تستنتج بعده أنّ الحقبةَ الزّمنية التي تجمع أبطال هذه القصص هي فترة الوباء لڤايروس كورونا، تحت سقف عمارة واحدة. حسبَ الغِلاف الجميل وتصنيف الكاتب فهي ”رواية“ لكنني للأمانة وجدتها أقرب لقصصٍ قصيرة منفصلة عن بعضها وثمة رابط بسيط يتداخل في كلّ قصة على نحو الصدفة ألا وهو بوّاب هذه العمارة أو زوجته.

الفكرة جميلة ويمكنك تخيّلها وعيش بعض تفاصليها وذلك لأسلوب الكاتب النّادر في عصر الكتابات المعقدة والمحشوّة بالكثير من الألفاظ لإيصال فكرة واحدة.. أو نصف فكرة حتى / وفي مجمل الأوقات الفكرة لا تصل… حسنًا سأعترف بأنّي مررتُ بتفاصيل معينة ذكرها الكاتب ووجدتها فائضة عن حاجة القارئ لمعرفتها بل كانت أقرب لإبعاد التركيز عن جوهر كل قصة والتيه قليلًا في المزيد من الأفكار التي تتضاءل دون وضوح وتنتهي سريعًا فهي قُيّدت بكونها أحداث قصيرة وليست روايةً متكاملة؛ لكن لا تزال تتسمّ بالسهولة في فهم الكلمات على الاقل، يعني لا يتطلب الأمر معجمًا وتأويلا وتفسيرًا لكل سطر يمرّ به القارئ. 

”بمكابدات بطولية تمكّن من النهوض، وبدأ يتصرف كطبيب. فتح شبّاك الصالة فتدفق الهواء. استنشقَ بعمق وتوجه إلى خزانةِ المطبخ وتناولَ ملعقةً من العسل، ثمّ خطا نحو مقعدٍ وتداعى فوقه…“

يمكنّك رؤية هذا في مخيلتك الآن، إنها البساطة التي اعتمدها في مجمل وصفه للمشاهد التي ستقرأها، سيكون مناسبًا جدًا قراءته أثناء انتظارك موعد الاقلاع، كــ مادةٍ أدبية خفيفة على العقل.

قرأتُ ”غربةَ المنازل“ في فترات متباعدة .. وكنتُ أستطيع الاندماج في كلّ مرة أعود لها، رأيتُ أسلوب الكاتب لطيف بما يكفي للاستمرار فيها حتى النهاية .   

Italy , 2023

قررتُ بعدَ عامٍ أن أقوم بمنتجةِ اللقطات التي التقطتها أثناء زيارتنا لروما، الڤاتيكان، والرّيف في توسكاني ؛ لا أعرف لماذا تعتريني الرّغبة بالتحدث عن هذه الرّحلة ، لكن سأكتفي بما يُخبره الڤيديو أعلاه، برغم امتعاضي بعد أن أدركت أنّي لم أصور ما يكفي وبالجودةِ المطلوبة لجمال إيطاليا، أعتقد أن الزيارة الأولى هي للدهشة والتجرّد من الكثير والعيش فقط في اللحظة الراهنة، كنّا نخرج أغلب الأيام بلا هواتفنا النقالة أو بلا كاميرا، كان التواصل مع الطبيعة والفنّ والجمال هو غايتنا التي كنا نسعى إليها بلا تكّلف ، لكنّي .. أريد العودة الآن والتصوير بناء على (ستوري بورد) واضح دون عشوائية اللقطات التي التقطتها بلا تخطيط مناسب، ووقعتُ في أزمة ترتيب كلّ الاطارات الفيلمية وفقًا لاختيار الموسيقى الذي كان صعبًا، ووجدتُ نفسي أدمج لحنين معًا كتجربةٍ جديدة بالنسبة لي حتّى يتوافق مع الفكرة التي علقت في ذهني؛ مع هذا.. أشعرُ بالرّضا للنتيجةِ التي وصلت إليها برغم قلّة جودة اللقطات …  مشاهدة سَعيدة . 

دَاء المثاليّة

دائرة القَلقْ

في يومنا هذا،  نشهد صراعًا مستمرًا في أدمغتنا التي كنّا نعتقد أنّها محميّةً بجمجمةٍ صلبة؛ لكنّ صلابة هذهِ العظام المحيطة بالعقل لم تكن كافيةً لأن تحفظه من فرطِ التفكير، أحيانًا أن تتعرض لضربةٍ على الرأس تطيب بعد فترة وجيزة .. أفضل بكثير من أن يتعرض عقلك للتهالك تحت وطأة القلق. لماذا ؟ لأسباب كثيرة … وأشدّها في وقتنا هذا ، أنّك لابدّ أن تتركَ أثرًا وتمارسَ حياتك بمثالية عالية ونظام محسوب بالسنتيمترات.

حَياة لا تُشبه الحَياة

أن تفيق كأبطال الأفلام منذ الفجر، تمارس الرياضة لتحافظ على لياقتك في عمر السبعين، تتناول طعامًا خاليًا من الدهون والسكّريات، تصل العمل باكرًا دائمًا، شغوف بعملك هذا، بيئة عمل يحلم بها الجميع! ، فيلا ضخمة وسيارات فارهة، الهدوء دائمًا يعمّ المكان، برغم وجود أطفالك، آه أجل، الأطفال! لا توجد فوضى إطلاقًا.. وكل شيء يسير وفق نظام محدد ومجدول زمنيًا في أجندة مكتوبة منذ بداية العام، لا يوجد إفراط في الوقت، كلّ ثانيةٍ تُمثّل قيراطَ ذَهب!

الحقيقة

الواقع أنك تضع لنفسك هذه الأهداف الضخمة في حينِ أن الإمكانيات ضئيلة بالنظرِ إلى شاهقِ الطموح، لا أقولُ أن تتوقف عن هذا الطموح ، بل أجل .. السعي الحثيث لا يحقق إلا كلّ خير، لكن .. لا يجب أن يكون كل شيء مثاليًا ورائعًا ، لابدّ أن نتصالح مع استحالة أن تكون بيئة العمل رائعة مثلًا ، أو ليس بالضرورة تجبر ذاتك على ممارسة الرياضة كل يوم كما لو أنّها فكرة تطحن دماغك حتى تحققها لتصبح في نطاق الأشخاص المثاليين، أن تقلق بشأن كل شيء لا تستطيع تحقيقه ببساطة لأن ثمّة ظروف تمرّ بها أولى ، العناية بطفل مثلًا … في الأشهر الأولى لرعايتي بطفلي .. كان كلّ تركيزي على تحقيق كلّ سبل الراحة له، حتى لو كانت الشقة أشبه بزلزالٍ حلّ بها …

صحيحٌ أنني كنتُ أشعرُ بالضجرِ حين أبحث عن شيءٍ ما ، وكنتُ أجدُ الصعوبة في ذلك تحت كومة الملابس التي للتوّ أخرجتها من المجففة ولم أستطع ببساطة أن أرتبها مباشرةً كما يجب في الدواليب ، لأن الطفل يبكي، أو لأنه جائع، أو لأنه يريد النوم.. والقائمة طويلة، فكنتُ أجدُ توتري هذا لا فائدة منه سوى صبّ غضبي على أطراف لا شأن لها بما أواجهه ، توقفتُ للحظة، وأيقنتُ أن ثمة حلول كثيرة ومريحة للتنظيف والترتيب، أن تأتي عاملة لمساعدتي مثلًا !

فأنا لا أستطيع فعل كل شيء بمثالية عالية، بل بالامكانيات الموجودة، أعلمُ كم يبدو كلامي يحثّ على التراخي والكسل، بل في الحقيقة هو أقرب للتخفف من أعباءِ ما (يجب) فعله ، فليسَ كلّ أمر في الحياة يجب أن نفعله و إن لم نفعل ذلك سنواجه توترًا وقلقًا مُميتا حتى نتمكن من تحقيقه .

 التحرُّر – Liberosis 

الرّغبة في العيشِ بهدوء وعدم الإكتراث كثيرًا لما يجري، الرّغبة بالعيشِ برشاقةٍ بعيدًا عن الجديّةِ المفرطة.

                                                                                           د.محمد الحاجي

 

خُلاصة

لعلّها مسألة أولويات، ثمّ مسألة وقت ، حتى نتمكّن من مقاربةِ أحلامنا بلا ضغط مستمر أو إلحاح ذاتيّ، وَ دائمًا .. كما يقولون، الاستمتاع في الرّحلة لهوَ أشدّ حلاوةً من الوصول نفسه، الحياة رحلتنا الخاصة .. التي فيها من التقلبات ما فيها، وليستْ بالضرورةِ أنّها خالية من الشوائب .. وكلّ ما نراه الآن في وسائل التواصل الاجتماعي هو المُحَصّلة لتلك التقلبات ، فالجميع لا يريدك أن ترى الجانبَ السيء من حياته، بل يسلط الضوء دائمًا على مثاليته في كلّ شيء، وفي الحقيقةِ باتَ أشبه بداءٍ أشدّ فتكًا من أيّ ڤايروس آخر، ذلك لأنه يؤثر على السلام الداخلي وسلامة العقل بشكلٍ أكبر، أن تضع نفسك دائمًا في مضمار المثالية وتُسابق الجميع في محاولة لمنافستهم حتى ولو كانت إمكانياتك محدودة . 

تذكّروا غزّة

دوّامةُ العلاقات …

في العلاقاتِ لابدّ أن تعرفَ ما لكَ وما عليها تجاهك، ليس من بابِ الأنانية لكن، منفعة مُتبادلة خيرٌ من استنزاف مستمرّ لطرف واحد في هذه العلاقة، ولابدّ من وضع حدودٍ وإطارٍ لكلّ علاقة نمرّ بها. فإن كانت العلاقة زوجية فإطارها العائلة والحميمية والحبّ، لا يشوبها مثلًا أشياء خارجية كأمور العمل، هنا يختلط الحابل بالنابل ، والعكسُ صحيح ، أنتِ موظفةٌ في العمل ، حدود هذه العلاقة في العمل ولأجل العمل، لا يشوبها أي تواصل من نوع آخر أو التدخل في الحياةِ الشخصية. 

إن الانسان يكفيه مالديه من مسؤوليات في حياته الشخصية، وقدومه للعمل فقط لتفريغ طاقته فيما يعمل به، فلا أظن أنّ من اللائق خلط الأمور بعضها ببعض، فحينها مسمّى العلاقة يضيع وتضيع بعدها الحقوق تِباعًا، لكلا الطرفين، خلق الصداقات في بيئة العمل قد يكون نوعًا من أنواع الضغط النّفسي، والإيذاء المستمرّ بحسن النيّة!، حتى وإن كان الطرف الآخر يظن أن ما يفعله في مصلحةِ هذا الموظف. جميلٌ أن تجمعكما علاقة الزّمالة التي  لربما تزيح شيئًا عن كاهلك بوجود شخص يشعر بضغط العمل تمامًا كما تَشعر، لكن أن تصلَ الأمور إلى توجيه الآخر في اختيار قرارٍ ما ، والقرار شخصيّ للغاية، لأن مصلحة العمل تقتضي بذلك، وأنت لا تعلم حينها أنه لمصلحةِ العمل لا لمصلحتك ، لأنكما كنتما في فترةٍ ما قد أضعتما هذا المسمى ما بين الرفقة أو علاقة عمل، فالثقّة عالية ومُسلَّمٌ بكل قولٍ يُقال، فتختلط الأمور بعدها، وتخوض صراعًا بين أن تكونَ عقلانيًا في قرارك أو لأجل فلان لن أفعل ذلك .. وتستمر في المزيد مما لا تطيق ، لأجل الآخر، لا لأجل نفسك وواجبك وفقط . 

إن سمومَ هذه العلاقةِ مستمرّة، حتّى وإن أغمضتَ عينيك لتهرب من الواقع، عقلك الباطن لا يزال يظهر صور هذا الشخص كما لو أن واجبك أن ترضيه دائمًا لا أن ترضي نفسك، ثمّ حين تحين المواجهة ، تُصبح الأعذار مختلفة وسامية ومثالية بينما أنتَ تبدو كالأناني والانتهازيّ الذي اختار مصلحته فوق الجميع وقد تسبّب بالكثير من الدراما التي لا طائل منها حقًا ، بينما في الواقع من حقّك أن تقول ما يزعجك، وأن توجدَ حلولًا لها، وإن كانت الحلول موجودة فماذا تنتظر؟، هنا ، فترة الانتظار هذه، تُصبحُ الكرةَ التي يركلها الجميع في ملاعبهم، كلّ شخص يخبرك رأيه بما يناسبه هو لا ما يناسبك، تختار فيما بعد ما تُريد، فيُشعركَ البعض أن خيارك خاطىء بطريقة أو أخرى ، وأنت تصغي ، وربما تضيع عليك الفرص و أنت تصغي.. واثقًا بهذا وذاك ، مسلمًا أمرك للقاصي والداني .. بينما نفسك لم تقف عندها وتخبرها بماذا حقًا تريد؟ ومالذي يمنع؟ اصغي لنفسك أولًا وأخيرًا ، سيكون درسًا قاسيًا أن تصغي للغرباء …. 

خلاصة القول، إن كنتَ موظفًا ، فحافظ على علاقتكَ برئيسك بحدودها ، حتى إن كان ثمّة شيءٌ تستحقه تأخذه بجدارتك لا أن يُمنّ عليك به كلّ مرة ، وإن كان ثمّة شيء لا يعجبك، تقوله دون تردد .. لا أن تُفضّل السكوت حتى يمتليء قلبك حفاظًا على هذه العلاقة الغريبة ، وحافظ على نفسك قبل أن تغرقَ في دوّامةٍ كهذه، فتخيّل أن تقضي ثلاثة أرباع يومك لأن ترضي فلان وفلان على حساب ذاتك؟  

صدّقني، ما يهمّ هو الصورة

في عامّ ٢٠١٠م ، تخرّجتُ من الثانويّة بامتياز، لكن لم تكن النسبة تقارب المئة حتّى أُقبل في كليّة الطب، فكان حينها هذا التخصص الوحيد الذي تُفغر له الأفواه، ثمّ يأتي بعدها التمريض، ثمّ أي تخصص طبيّ آخر، درستُ سنةَ في جامعة الملك عبد العزيز بجدّة، وبعد السنةِ التحضيرية كان تخصص ادارة الأعمال هو الوحيد المتاح، فكنتُ حينها كمَن ضيّع عامًا من عمره، هذا التفكير المنحط ونظرية القطار الذي يمضي… ولا يصطحب معه الأمنيات والأحلام. 

في عامّ ٢٠١١م ، بالتحديد في منتصف العام الدراسي، صرت أبحث عن أي تخصص آخر / في نطاق الصحّة ليقبلني، كانت المعاهد الصحية أغلبها تَقبل من بداية العام الدراسي، ماعدى معهد المواساة للعلوم التطبيقية، دخلتُ المبنى، كان أشبه بعمارة مهجورة، تفاجأت بوجود موظفة استقبال أصلاً.. سألتها كمن يدخل متجرًا يرى المتاح من بضائعه، ماذا لديكم من تخصصات؟ كلّ المقاعد امتلأت، لكن هناك مقعد وحيد في تخصص مساعد طبيب أسنان – كانت هذه اجابتها، فقلتُ لها حسنًا، هذه أوراقي ، وقدّمتُ لها الملف ، وبقيَ المبلغ المالي للتسجيل، فأخبرتُها أنني سأعود غدًا بالمال. 

خرجتُ من المعهد متجهةً إلى سيارةِ أبي الذي كان بانتظاري، سألني ماذا حدث؟ قلتُ له نفذت كل المقاعد في صفوف التمريض والمختبرات، ظلّ مقعد واحد في تخصص مساعد طبيب أسنان.. سألني، وما هو هذا التخصص؟ أخبرته لا أعلم .. ظلّ حائرًا، لكن ظل صامتًا في آن واحد، كان يعلم حجم الضياع الذي كنت تائهةً بداخله ، بعدَ مضيّ ربع ساعة تقريبًا، اتصل لأخي الأكبر وسأله ماهو تخصص مساعد طبيب أسنان؟ فأجابه بعدم المعرفةِ أيضًا .. يا للروعة .

لم أكُن واعيةً حينها ، أو حتّى مُهتمة لمعرفة طبيعة العمل، في النهاية سوف أرتدي معطفًا وأعمل في مشفى ، كأي شخص رائع وناجح ، كانت هذه الصورة المثالية للنجاح حينها، صدّقني، ما يهم هو الصورة حقًا . 

كانتِ الدراسة دبلوم، فالتخصص لا يحتمل أكثر من كونه دبلومًا، كلّ المواد كانت بالنسبة لي سهلة، تخرجتُ بعد عامين بمعدل ممتاز ، توفيَ أبي قبل أن أتخرج بعامّ .. فكانت فرحة النجاح مليئة بالغصّة والدموع، ولكن، لحسن الحظّ أنّه لم يعرف حجم المعاناة التي أعانيها الآن وراء اختيار هذا التخصص … 

مع فائق احترامي لجميع موظفيّ هذه المهنة، لكنّها لا تعجبني، كلّ ما في الأمر أننا نساعد الطبيب في الحصول على ما يحتاجه من أدوات لعلاج المرضى دون أن يلمس الأسطح المُطهرة بيديه الملوثتين بالدّم واللعاب … فحفاظًا على نظافة المكان وعدم انتقال  العدوى وُجِدَ هذا التخصص ، كلّ ما في الأمر أننا نُطهر المكان ونُناوّل الطبيب ما يريد . 

بعدَ مضيّ فلنقل ، ستّ سنوات من ممارستي لهذه المهنة، عادت مشاعر الضياع التي كان يَحذر أن يفتحَ جراحها والدي آنذاك، وبدأت أشعر بالقرف الشديد مما أنا فيه، لربما هي مُشكلةٌ أعانيها أنا وحدي، فبقية الموظفين من نفس تخصصي يعيشونَ أيامهم باستقرار وثبات روتينيّ ، كنت ولازلت حتى هذه اللحظة ، أي بعد مضي ثمان سنوات ، لا أجدُ نفسي في تخصصٍ دخلته لأنه الوحيد المُتاح ، لا يشبهني، ولا يُحقق شيئًا من ذاتي . 

عندما أواجه سؤال : لو عاد بي الزمن ماذا سأغيّر؟ كانت اجابتي دائمًا هي تخصصي، فتخيّل أنّك يوميًا تصحى صباحًا لتعمل شيئًا تمقته، بل أنت مُرغمٌ عليه بإرادتك ، ولا شيء قد يُغيّر الواقع عدى أن تخرج من ثباتك المزري نحو مغامرة أخرى، مغامرةٌ تُرضيك وتُشبهك ، مُغامرة تُحقّق فيها كلّ ما يكبلك في دائرة التطهير والتنظيف ومكافحة العدوى في عيادات الأسنان، مُغامرةٌ أستطيع بها أن أخبرَ أبي حين ألقاه .. أنّني تفوّقتُ على حيرةِ ذاتي، واستطعتُ معرفةَ ما أريد، ودرستُ بعد سنوات عجاف شيئًا يضيء روحي، فكلُّ الذي أمرّ به الآن .. هو انطفاءٌ وتضاءلٌ وتعبٌ شديد وحبوب مضادّة للاكتئاب أحارب بها تعاسة هذا الواقع، ولا تهمّ الآن الصورة ، لا يهمّ المعطف الأبيض ولا المستشفى .. يهمنّي أنا .

Powered by WordPress.com.

Up ↑